إذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء!
بينما كنت أتصفح لائحة بالأمثال العربية المتداولة والمشهورة، إذا بعيني تقع على مثل يقول: إذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء! فتملكني ما يشبه التقهقه أو الضحك من سخرية المشهد الكاريكاتوري الذي يصوره، وهو، في الحقيقة، مشهد ناجح بكل امتياز، إذا ما وظفناه في سينما الرسوم المتحركة، حيث تتابع قطيعا من الغنم الذي ضل سبيله، فتاهت كل شاة منه في اتجاه مخالف لاتجاه الأخريات، حتى أصبح القطيع برمته في مهب المجهول، ومرد هذه الحالة من الضياع، كما قد يستوحى من القراءة الأولى للمثل، إلى غياب الراعي الحقيقي للغنم، الذي بغيابه استبدل براع آخر، هو العنز الجرباء، التي تسلمت مهمة قيادة الغنم التائه المتشرذم، وإن كانت هي نفسها في مسيس الحاجة إلى من يأخذ بزمام أمرها، ويصلح حالها وصحتها، خصوصا وأنها جرباء! يقتاتها الهزال والجوع والتعب، فيا له من مشهد ساخر، يذكرنا بمسرح الكوميديا السوداء، تمتزج فيه الفرجة بالألم، الترويح بالمعاناة، الضحك بالأسف.
غير أن الذي يهمنا أكثر ليس المشهد الذي يتضمنه المثل نفسه، وإنما ما يوحي به من دلالات عميقة، تتجاوز الفهم الحرفي للكلمات والحروف التي تتشكل منهما جملة المثل الشرطية؛ فالغنم ليست تلك الحيوانات الحقيقية التي يربيها الإنسان ويرعاها، ليستفيد من لحومها وأصوافها وغير ذلك، والعنز الجرباء ليست تلك الماعز التي عادة ما تهوى الرعي في سفوح الجبال وأعاليها، فهذه الأشياء أو الحيوانات التي تتكون منها عبارة المثل، ما هي إلا مكونات لغوية تحمل شحنات رمزية وتعبيرية، توحي بأنها مجرد رموز لها مرموزات حقيقية على أرض الواقع، مما يدعونا إلى أن نضع هذا الاستفهام: ترى ما دلالة الغنم المتفرق؟ وبماذا توحي عبارة العنز الجرباء؟!
لا نملك التفسير المباشر لهذا الاستفهام، إلا إذا امتلكنا الوعي اللازم بالواقع الذي نحن بصدد إنزال هذا المثل عليه، وهو واقع يحتاج إلى أن ننسج له صورة تقريبية، تمكننا من الفهم الكافي لأنساقه الطبيعية والثقافية، التي ما هي إلا ظل لأنساق السياق المصغر الذي ينقله المثل، وهذا الواقع الذي نتوخى فهمه، يتقاسمه محوران، محور الضعف والقوة، الإذعان والهيمنة، الذل والعجرفة، وخير ما يمكن أن ننعت به المحور الأول صفة الجبن، والمحور الثاني صفة الغطرسة.
جبن الشجعان وشجاعة الجبناء!
فتشت في الذاكرة الفردية والجماعية، اللغوية والتراثية، عن مصطلح مناسب يمكن أن نصف به الحالة التي توجد عليها الأمة والأنظمة العربية والإسلامية، في هذا الزمن العجيب، بتطوراته التكنولوجية والمعرفية، وتقلباته السياسية والمناخية، فتريثت عند مجموعة من المصطلحات والنعوت المتداولة مثل: الرجل المريض الذي نعت به الغرب الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، والشعوب المستعمرة، والمستضعفون في الأرض ، والدول المتخلفة، والعالم الثالث وغير ذلك، فأدركت أن هذه النعوت كلها لا تنطبق إلا نسبيا على حالة الأمة والأنظمة العربية والإسلامية، فهي ليست مريضة مرض الدولة العثمانية، وليست مستعمرة بذلك الشكل التي استعمرت به في القرنين السابقين، وليست مستضعفة استضعافا شاملا، فبين ظهرانيها يوجد المستكبر الذي يستضعف الضعفاء، والمستضعف الذي يستكبر عليه الأقوياء! وليست متخلفة، مادامت لاتنفك تنجب المفكرين والمثقفين والمبدعين والدكاترة والمهندسين في شتى المجالات والتخصصات، وهكذا دواليك، فاستغرقت في التنقيب عن مصطلح آخر أكثر ملاءمة للحالة العربية والإسلامية، وإذا بي أقف عند مصطلح الجبن، الذي حاولت أن أستجلي ما يوحي به من معان، قد تسري على الوضعية الحرجة التي نوجد عليها، حتى ندرك من نحن، بعيدا عن العنتريات والأمجاد والأجداد، ولو أننا جبلنا على غير ذلك، إلا أننا الآن اكتسبنا سلوكا جديدا جعلنا نفتقد ما جبلنا عليه بالتدريج، فصار أنسب ما ينطبق على واقعنا هو المعنى الذي ضمنه المتنبي هذا البيت الشعري الذي يقول فيه:
يرى الجبناء أن الجبن حزم/// وتلك خديعة الطبع اللـئيم
فإذا ما أمعنا النظر في حالة الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة، أدركنا أن الشعور الذي يسكن نفوس القائمين عليها، ليس إلا ضربا من الجبن الذي يسمى بشتى المصطلحات البديلة، مثل احترام القوانين الدولية، خدمة المشاريع التي تطرحها منظمة الأمم المتحدة، السلم العالمي، مسيرة السلام، وغير ذلك من المصطلحات الجميلة والبراقة، التي يتم التعامل معها بإرادة مهزومة ونفسية خاضعة، تجعل منها أدوات في يد الدول القوية، تستعملها متى تشاء، وتسخرها لما يضمن مصالحها السياسية والاقتصادية، بعيدا عن أسلوب التوازن والتكافؤ، الذي يعادل بين حقوق وواجبات سائر الأطراف، فهذا التعامل ولو أنه مختل وجائر، وأن كفته تميل إلى الأقوياء، فإن أنظمتنا لا يريبها هذا الاختلال، ولا يشغلها ذلك الجور، بقدرما ترى فيهما أمرا محمودا، ينبغي أن يؤخذ بحزم، ويقابل بشجاعة، حتى تحوز حضورا معتبرا في المحافل الدولية، أما إذا عبرت الشعوب عن رفضها لاضطهاد الأنظمة، وطالبت بأدنى الحقوق الثقافية والسياسية والمعيشية، فإن ذلك يسمى في قاموس الأنظمة العربية والإسلامية، الشغب والعصيان، ولم لا؟ الجبن الذي يجلب المفاسد للأمة!
هكذا انقلبت الآية، فأصبح أحفاد الشجعان الذين تحدث عنهم التاريخ بإجلال جبناء، إلا أنه يمنع أن يشار إليهم بذلك، فجبنهم حزم، يدخل على الأمة بركة السلام، التي تجود بها خزائن الإدارات الغربية المتصهينة، لذلك فممنوع على الشعوب أن ترفع صراخها المر، لأنه يفسد تلك البركة، فيعرض جبن الأنظمة أو حزمها، لغطرسة الغرب الدفينة واشمئزازه المعلن، وفي مقابل ذلك صار أحفاد الجبناء شجعانا، الجبناء الذين قال فيهم الله تعالى في سورة الحشر: ” وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبصار”، حتى صارت كلمة اليهودي (أوذاي) في لغة أهل المغرب الأمازيغية تعني الخائف والجبان، لكن تظل هذه الشجاعة التي أصلها جبن مزيفة، لا تعدو أن تكون إلا ضربا من الغطرسة والتعجرف، الناتج عن امتلاك أسباب القوة والنفوذ، فبمجرد ما تنتفي تلك الأسباب، ينهار قناع تلك الشجاعة، الذي يحجب خلفه هيكل الجبن الهزيل!
أنظمة جبانة وشعوب شجاعة!
ليس من طبيعة المسلم الحقيقي الذي يسخر كل دنياه لأجل آخرته، أن يخاف على أن يضيع شيئا معينا، لأنه لا يملك أصلا ما يضيع، فكل ما تحتويه يداه، إنما هي أمور فانية، سوف يحاسب على الطريقة التي تعامل بها معها، هكذا اكتسب المسلم مشاعر خالية من الخوف من المجهول، والالتفاف حول ملذات الحياة، والتثاقل في أخذ القرار وغير ذلك، مما يجنبه الوقوع فريسة الجبن، الذي قد يجعله هيوبا للأشياء لا يقدم عليها، فيسري عليه قول الشاعر:
إذا غامَرْتَ في شرف مروم/// فلا تقنع بما دون النجوم
فهذا هو حال قسم عظيم من شعوب الأمة العربية والإسلامية، التي تمتطي صهوة المستحيل لأجل إقرار المبادئ الدينية التي تؤمن بها، وتضحي بالنفس والنفيس من أجل الذود عن الهوية التي تمثلها، لذلك فهي تستحق أن توصف بالشجاعة، وإن كانت الأنظمة التي تحكمها تؤول ذلك على أنه شغب وتمرد، وهي لا تعي أن البعوضة على صغرها وحقارتها بمقدورها أن تدمي مقلة الأسد!
ومن سوء حظ هذه الشعوب الشجاعة أنها محكومة من لدن أنظمة جبانة، تكبحها من ترجمة طموحاتها على أرض الواقع، لما تشكله من خطر على مواقعها السياسية والسيادية، والأنكى من ذلك، أنها تتحالف مع العدو الحقيقي الذي يتحين الفرص، حتى ينقض على التركة الحقيقية للأمة، من دين وثقافة وتراث وثروات واقتصاد، انقضاض النسر على الطائر الأعزل، ويتم هذا التحالف تحت شعارات توحي بالتعاون العلمي والثقافي والاستراتيجي وغير ذلك، ولكنها لا تعدو أن تكون إلا مجرد أقنعة تواري خلفها نوايا الهيمنة والغطرسة والاستحواذ، مما يبث في قلوب مختلف الشرائح الاجتماعية إحساس الخيبة والإحباط، لأنها تستشعر أن الأسلوب الذي تنهجه أنظمة الحكم، إنما يصب في خدمة المصالح الصهيونية الكبرى، وأنه يستحيل على الحمل أن يتخذ الذئب صديقا، وإلا فإن عاقبته أن يوقع بنفسه، وعن طواعية، على مرسوم يقضي بأن يذبح بمخالب وأنياب صديقه الحميم، ويصير مأدبة شهية له ولجرائه، فهل تدارك الحكام العرب أنهم مجرد حملان وديعين وأن الغرب المتصهين ذئب داهية؟ وهل تقرر لهم أن هذا الذئب قبل أن يأتي على ما يتمتعون به من مناصب وأبهة وجاه، سوف يمهلهم طويلا حتى يتمكن من نفوسهم الهشة، ويوجههم وفق مخططاته الجهنمية التي تتلبس دوما بما هو اقتصادي وعلمي وثقافي ودبلوماسي ونحو ذلك، إلا أنه يندس فيها ما هو أفضع للبلاد والعباد، كما يندس السم في الدسم!
ولا أدل على ذلك مما تربى عليه أجيال الدولة العبرية داخل المدارس والبيوت، التي تحقن بتعاليم الصهيونية المبطنة، بأفكار الهيمنة الظالمة التي تباركها القوانين الدولية على حساب الغير، والبغضاء المشهودة للإسلام وذويه، التي غالبا ما تسمى بمسميات أخرى، كمواجهة الإرهاب، ونشر السلم، والتعاون السياسي، وتبادل الخبرات، والتحالف العسكري، والسوق الحرة، وعولمة الاقتصاد وغير ذلك، وكلها مصطلحات مبهمة لأنها تحجب خلفها أكثر مما تبديه، لذلك فالأنظمة العربية والإسلامية لا تأخذ إلا ذلك البادي من هذه المصطلحات والمشاريع، من بهرجة إعلامية ووعود سياسية ومجاملات ثقافية، وهذا أمر جد عاد، مادام أنها لا يمكن لها أن تستوعب إلا ما هو سطحي، أما العميق من الأمور فلا يدركه إلا أولو الألباب، من العلماء والمثقفين والمتخصصين، الذين إما يقبعون خلف قضبان السجون أو الرقابة، وإما يعيشون منفيين في الخارج.
فهل سمعتم يوما ما أن حاكما عربيا أو مسلما، استفتى شعبه في أمر يخص مصير الأمة، مثل التطبيع مع إسرائيل، وإقامة قواعد أمريكية على أرض الوطن، التي هي ملك لسائر المواطنين، وغير ذلك من الأمور المصيرية، أم أن الشعب يستفتى فقط أثناء تعديل الدساتير، التي لا يكتبها بعرقه ودمه، وإنما يبدعها كتبة القصور بوحي من شيطان الشعر الأمريكي أو الفرنسي أو السويسري أو غيرهم، فهل اعترف يوما ما حاكم عربي أو مسلم بأنه أخطأ في أمر معين، وأنه يعتذر لشعبه، أم أن الشعب هو وحده الذي يخطئ ويحاسب فيعاقب! فلا يكون هؤلاء الحكام ذئابا إلا مع شعوبهم الأبية التي لا تريد إلا الخير، لأوطانها الممسوخة هوياتها، والمنهوبة ثرواتها، والمرهونة حرياتها، أما مع الأعداء فيصبحون حملانا، يعبقون وداعة ولطفا وحيوية! وهذه الازدواجية في التعامل إنما مترتبة عن آفة الجبن التي تتخبط فيها أنظمتنا، لذلك فهي مع شعوبها تتظاهر بالشجاعة والحزم والأخذ بزمام الأمر، ومع الغرب المتصهين تتعامل بالمجاملة والبذل والتعاون.
فكانت نتيجة هذه الازدواجية التشرذم العارم الذي رزئت به الأمة العربية والإسلامية، من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، حيث على مستوى الإدارة تشتتت الأنظمة العربية والإسلامية، في الوقت الذي تتوحد فيه الأنظمة الأوروبية والغربية، فصار العالم الإسلامي، على تلاحمه الجغرافي والتاريخي والديني، عبارة عن جزر جرباء تتقاذفها رياح العزلة والانصياع، أما على صعيد القاعدة فافتقدت الشعوب البوصلة التي توجهها إلى بر الأمان، فأمست بمثابة ذلك القطيع من الغنم الذي غاب عنه راعيه الأمين، فتشرذمت شياهه في متاهات موحشة مظلمة، ترى هل أدركتم معنى الغنم المتفرق؟ وبماذا توحي عبارة العنز الجرباء؟! ترى هل استوعبتم الدلالة العميقة التي يحملها هذا المثل العربي القديم: إذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء